فصل: قال الغزنوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الغزنوي:

سورة المطففين:
3 {وَإِذا كالوهم}: كالوا لهم، ولكنّه لما تقدم (اكتال) عليه كان (كاله) أفصح.
7 {سجين}: (فعّيل) من (السّجن)، وهو تحت الأرض السّابعة. عن ابن عباس.
9 {مرقوم}: مكتوب كالرّقم في الحجر لا ينمحي.
14 {رانَ على قُلُوبِهِمْ}: غلب وغطّى. وفي حديث عمر رضي اللّه عنه: «أصبح قد رين به» أي: أحاط بماله الدّين.
18 {عِلِّيِّينَ}: مراتب عالية، جمعت جمع العقلاء تفخيما، والواحد (علي) وهي في السّماء السّابعة.
26 {ختامه مسك}: آخر طعمه.
27 {مِنْ تَسْنِيمٍ}: عين عالية تتسنّم منازل أهل الجنّة.
36 {ثُوِّبَ}: جوزي. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة المطففين:
عدد 36- 86 – 83.
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت.
وهي ست وثلاثون آية.
ومائة وتسع وستون كلمة.
وتسعمائة وثلاثون حرفا.
وتسمى سورة التطفيف.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {وَيْلٌ} الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص {لِلْمُطَفِّفِينَ} 1 الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «{ويل} واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره»، وفي صحيح ابن حبان والحاكم «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر..». إلخ.
وروى ابن أبي حاتم عن عبد اللّه أنه واد في جهنم من قيح.

.مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:

ثم وصف اللّه تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا على النَّاسِ يستوفون 2} الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله: {وَإِذا كالوهم أَوْ وزنوهم يخسرون} 3 ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين.
واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا ** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة، وقد ذم اللّه فيها التطفيف وحذر منه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قادم إلى المدينة، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة، والذم الكثير في الدنيا، وهذه أول رحمة من اللّه نالت أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم، وكان كذلك، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه، وأنها نزلت فيه.
ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها، واللّه اعلم.
وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا، ويتناول القليل والكثير، وإنما شدد اللّه تعالى في هذا لأن عامة خلقه محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق اللّه قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق اللّه أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق.
وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك.
وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة.
قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ} المطففون {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} 4 من قبورهم محشورون مساقون {لِيوم عَظِيمٍ} 5 ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم {يوم يَقُومُ النَّاسُ} في الموقف للحساب ويعرضون {لِرَبِّ الْعالَمِينَ} 6 فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير.
روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل».
زاد الترمذي «أو ميلين».
قال سليم بن عامر واللّه ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين.
قال: «يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى فيه».
وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «خمس بخمس قيل يا رسول اللّه ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر».
ورواه غيره مرفوعا.
وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه اللّه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي اللّه عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين.
وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى: {يوم يَقُومُ النَّاسُ} على منع القيام للناس لاختصاصه باللّه تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «قوموا لسيدكم».
إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم.
وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-.
هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية 27 من سورة الشورى، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة.
قال تعالى: {كَلَّا} لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله: {إِنَّ كتاب الفُجَّار} يشمل الكفرة كما مر في الآية 14 من سورة الانفطار لاسيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية 22 الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم {لَفِي سجين} 7 وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال تهويلا بكتاب الفجار وقبحه {وَما أَدْراكَ} أيها الإنسان {ما سجين} 8 هو شيء عظيم لا تدركه دراية دار فهو {كتاب مرقوم} 9 مكتوب فيه بخط غليظ لأن الرقم الخط الغليظ بحيث يعلم ما فيه من اطلع عليه عن بعد لأول نظرة بلا تفكر ولا إمعان، قال الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ** على بعدكم إن كان للماء راقم

وهذا الكتاب علامة على شقاوة صاحبه وكونه من أهل النار وفي لفظة سجين إشارة إلى سجن صاحبه في جهنم ومبالغة في شؤم ذلك السجن، بفتح السين ولقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، وهو شر موضع في جهنم في مكان موحش مظلم في مسكن إبليس وذريته، كما وردت الآثار بذلك، وقيل إن سجين اسم الموضع لما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: إن الفلق جب من جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح، وهذا أولى، إذ يكون الكتاب وسجين على ظاهرهما لولا قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما سجين كتاب مرقوم} إذ أبدل الكتاب منه، وقد أجاب الإمام النسفي عن هذا في تفسيره بأن سجين كتاب جامع هو ديوان أهل الشر دوّن اللّه فيه أعمال الشياطين والكفرة من الإنس والجن، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلوم بحيث يعلم من رآه أنه لا خير فيه، وعليه يكون المعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان بخط غليظ مميز عن غيره، وقال بعضهم إن نون سجين بدل من لام، وأصله سجيل مثل جبرين في جبريل، ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه، ويطلق الرقم على العدد عند أهل الحساب، وليس بمراد هنا. هذا واللّه أعلم.
{وَيْلٌ يومئِذٍ} يوم يخرج ذلك الكتاب في ذلك اليوم العصيب {لِلْمُكَذِّبِينَ} 10 بذلك اليوم الفظيع لما ينالهم من وبال وحقارة على رءوس الأشهاد، وذل ومهانة وعذاب لا تطيقه الأوتاد، اللهم إنا نتبرأ إليك مما يوجب فضيحتنا يوم التناد ثم وصفهم بقوله عز قوله: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيوم الدِّينِ} 11 يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم.
قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول {وَما يُكَذِّبُ بِهِ} أحد {إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12} كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز الحد فيها غال في التقليد، لأنه جعل قدرة اللّه قاصرة عن الإعادة وعلمه تعالى قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لابد منها في الإعادة، وجعل علة الإعادة محالة عليه، وهو تعالى ليس عليه شيء محال البتة {إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا} الدالة على البعث والجزاء {قال} ذلك الأثيم لفرط جهله وقلة عقله وكثرة طيشه وشدة إعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه لو كان فيه لمحة من حلم أو لمعة من علم لما قال: {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 13 خرافاتهم المتناقلة وأباطيلهم التي ألفوها على الآباء من قبل، ولم يظهر لها أثر حتى الآن.
قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث أو الوليد بن المغيرة، وأيا كان فالآية عامة، والكلام مطلق يدخل فيه كل من اتصف بصفات الذّم هما وغيرهما {كلا} ليس الأمر كذلك، أي مثل ما قال ذلك الأثيم وأضرابه من الباطل والتكذيب {بَلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} 14 من الآثام الخبيثة، وهذه الجملة بيان لما أدى بهم إلى التقوه بذلك الكلام الفظيع، أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة، ولكن أغشيت قلوبهم وغطبت بأوساخ الذنوب وصداها حتى غلب عليها السوء وحال بينهم وبين معرفة الحق كثافة الحجب الحاصلة من طبقات الرين عليها، فلم تقدر أن تعي شيئا أو يوقر فيها شيء من الحق، فقالوا ما قالوا.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله: {بل ران}»إلخ.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: «من أذنب ذنبا..». وبزيادة «سوداء» صفة لـ: «نكتة»، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى: {بَلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول اللّه من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه».

.مطلب القراءات السبع، ورؤية اللّه في الآخرة، والقيام للزائر:

هذا، وقد وقف حفص على {بل} وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر.
وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرئ {ران} بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى: {كَلَّا} حقا وصدقا {إِنَّهُمْ} الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم {عَنْ رَبِّهِمْ} ومالك أمرهم {يومئِذٍ} في يوم الدين {لَمَحْجُوبُونَ} 15 عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح.
هذا، وان اللّه تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا يضاهيه عذاب.
وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن اللّه ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه اللّه لما حجب اللّه أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم، قال:
إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا ** والناس من بين مرجوب ومحبوب

ومعنى اعتروا غشوا، والعبيّة بضم العين وتشديد الباء والياء الملك المتكبر، ورجبوا هابوا وفزعوا لعظمة ودهشة مقابلته، راجع بحث الرؤية في الآية 23 من سورة القيامة وما ترشدك إليه من المواضع.
ثم أخبر اللّه تعالى عن هؤلاء الكفرة بأنهم مع كونهم محجوبين يحرقون في النار أيضا بقوله جل قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجحيم} 16 يقاسون حرقها عند ما يزجون فيها، وهذا عندهم أشد بلاء من الحجاب، أما عند المؤمنين فالحجاب عندهم أعظم أنواع العذاب.
قال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا {ثُمَّ يُقال} لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا {هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 17 في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم {كلا} ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة.
ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق اللّه المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عز قوله: {إِنَّ كتاب الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} 18 وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه {وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ} 19 أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده اللّه، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه {كتاب مرقوم} مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة عن كتاب جامع هو علم لديوان أهل الخير دون اللّه به أعمال الأنبياء والشهداء والملائكة والعارفين وصلحاء الأمة من الأولين والآخرين، وعليون على ما ظهر لك من التفسير هو كتاب مرقوم مسطور فيه كل عمل صالح ظاهر الكتابة، معلم بعلامة يعلم منها من رآه لأول لمحة أنه جامع لكل خير فيما كتب من أعمال الأبرار، مدون فيه بخط واضح مميز عن غيره، ومنه رقم الثوب أي نقشه لظهوره للرائي عن بعد وتمييزه عن الثوب {يَشْهَدُهُ} من الملائكة {الْمُقَرَّبُونَ} 21 لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد اللّه تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء اللّه تعالى من سلطانه، فيوحي اللّه تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء اللّه من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين».